تسخير التحليلات في الوقت الحقيقي من أجل المساءلة العامة: التطور الرقمي للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة
من إعداد: إمانويل كالينتزس
أولاً – من التدقيق البطيء إلى اليقظة الفورية
تتمُّ عمليات التدقيق المالي التقليدية بعد فترة طويلة من إتمام حركة الأموال. وبحلول الوقت الذي تتم فيه تسوية دفاتر الأستاذ وتقديم التقارير، قد يجري تبييض التحويلات الاحتيالية بما يتجاوز الاسترداد. غير أنّ البيانات الحكومية تنتقل اليوم بطرق سريعة رقمية – منصات الخزانة، وواجهات برمجة التطبيقات الضريبية، والبوابات المصرفية، والمنصات، وحتى السحابة – حيث تترك كل معاملة بصمة زمنية محدّدة.
وعندما تُدخل الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة هذه المسارات في محركات التحليل، فإنّها تضغط دورة التدقيق من أشهر إلى دقائق. علاوةً على ذلك، يمكن التدرُّب على التعلُّم الآلي من خلال مراكمة البيانات لتجميعها والتكيُّف مع أنماط تحديد المواقع.1 ويمكن أن تبرز الأنماط المشبوهة وأن يتم اكتشافها بمجرد تشكُّلها تقريباً، ويكتسب المدققون فرصة للعمل بينما لا تزال الأموال العامة في متناول اليد. ومع إضفاء الطابع الرقمي الكامل على الموارد المالية للحكومة، يجب تكييف التدقيق الكلاسيكي بسرعة، وإلا يمكن اعتبار المخاطر غير متزامنة.
واليوم تستطيع واجهات برمجة التطبيقات نفسها التي تعمل على تزويد نظم الخزانة والمشتريات والضرائب والمصارف بالطاقة تعزيز مسار مستمر من المعاملات للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة بواسطة التشغيل البيني. ومن خلال النظر في هذه المسارات بحثاً عن أي أخطاء إحصائية، يستطيع المدققون أن يكتشفوا أنماط الإثراء غير المشروع افتراضياً عند ظهورها، فيقلّصون بذلك النافذة التي يمكن عبرها إخفاء الأموال أو غسلها. وتتيح مرئيات البيانات ولوحات المعلومات المباشرة والتنبيهات المؤتمتة للأجهزة العليا مشاركة المرئيات بشكل فوري مع أصحاب المصلحة، وفي بعض الحالات مع الجمهور نفسه. ويساهم هذا في عملية تدقيق أكثر انفتاحاً ويمكِّن المجتمع المدني من رصد أداء القطاع العام في بيئة ديناميكية تعتمد على البيانات. وكما لاحظت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2024)، تعمل النظم الآنيّة على تعزيز وظيفة الضمان والشرعية الخارجية للإشراف العام عبر تحسين الاطّلاع وتمكين التدخلات في الوقت المناسب2.
يجري بناء نظام للكشف في الوقت الحقيقي يتألّف من مستويات متعدّدة. أولاً، تستوعب القنوات الآمنة الخدمات المصرفية والمشتريات والجمارك والتغذية الضريبية. وهي عبارة عن منظومة متعددة الطبقات حيث يتم استيعاب البيانات الخام، وحلّ الأسماء المستعارة، وتصميم إشارات المخاطر، وتحديد نماذج الدرجات، وفرز التنبيهات وتسجيل كل قرار للتأكد من سلامة الأدلّة. ويمكن أيضاً الكشف عن العديد من المتغيّرات، مثل الشركات القابضة والمالكين المستفيدين، استناداً إلى سلسلة المعاملات التي يجري تقسيمها وتأجيرها، للكشف عن التحويلات المصرفية، والإقرارات الضريبية، والإقرارات الجمركية، وغير ذلك من المعاملات التي تستكمل الصورة الكبيرة. ويمكن “تفسير” الأرقام الأولية بسهولة إلى إشارات سلوكية – معدلات نمو غير عادية، ونسب غير نمطية إلى مجموعات الأقران، وشبكات دفع ناشئة. وتسجّل نماذج التعلم الآلي أو مجموعات القواعد المصمّمة بخبرة كل حدث، وتقوم بترتيبه حسب المخاطر. وأخيراً، توجّه وحدة إدارة الحالات المسارات الأكثر خطورة إلى المدققين البشريين، مما يشير إلى مجالات المخاطر بدقّة من أجل وضع خطة التدقيق بدقة. وبطبيعة الحال، يتولى المدققون الإشراف باستخدام سلطتهم في رفض تنبيه أو متابعة، وتالياً السماح لعلم البيانات والحكم المهني بتعزيز أحدهما الآخر.
ثانياً – الصعوبات القانونية: إعادة توصيل عملية التدقيق
رغم المزايا، يثير نشر الخوارزميات تساؤلات قانونية وأخلاقية معقّدة. وقد تطغى التحليلات القوية أو تضلّل إذا تُركِت بلا قيد – من دون إشراف بشري3. وتستنزف الإنذارات الكاذبة المفرطة الموظفين؛ وتشوّه الثغرات الخفية في البيانات النماذج؛ وتواجه خوارزميات الصندوق الأسود خطر المعاملة المتفاوتة؛ وتبرز مشكلات تتعلّق بحماية البيانات الشخصية. ويبدأ تخفيف المخاطر بالشفافيّة، إذ لا بدّ أن يعرض كل تنبيه الأدلّة التي أدّت إلى نشوئه. ويجب أن تكون مسؤولية المراجعة متدرّجة، وأن تحدّد السجلات من قام بالوصول إلى ماذا ومتى، مع الحفاظ على سلسلة القيادة.
تفتقر العديد من الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة إلى البنية التحتية التقنية أو الخبرة اللازمة لتنفيذ أطر تدقيق الذكاء الاصطناعي المتطورة. فضلاً عن ذلك، تنشأ التوترات غالباً بين الحاجة إلى الشفافيّة وحماية السريّة التجارية أو الملكية الفكرية، وخصوصاً عند إخضاع المتعاقدين من القطاع الخاص أو الخوارزميات المضمّنة في النظم العامة للتدقيق. ولمعالجة هذه القيود، يتعين على الأجهزة العمل على وضع استراتيجيات قوية للحوكمة الرقمية، والاستثمار في بناء القدرات المتعدّدة التخصصات، وتبني مبادئ أخلاقية حسب التصميم عند نشر الأدوات التحليلية في الوقت الحقيقي. ولن يعتمد التطور الرقمي للأجهزة على الجاهزية التكنولوجية فحسب، بل أيضاً على الالتزام المؤسسي بدعم النزاهة والاستقلالية وحقوق المواطنين في إطار رقابي سريع التغير4.
ويؤسّس قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي الذي اعتُمِد في يوليو/تموز 2024 إطاراً قانونياً منسّقاً لتطوير نظم الذكاء الاصطناعي ونشرها واستخدامها في مختلف الدول الأعضاء. واستناداً إلى نهج قائم على المخاطر، يصنّف القانون نظم الذكاء الاصطناعي إلى أربعة مستويات – غير مقبولة، وعالية، ومحدودة، ومنخفضة المخاطر – يرتبط كل منها بالتزامات امتثال محدّدة. ويتعيّن على النظم التي تعتبر عالية المخاطر، مثل تلك المستخدمة في إنفاذ القانون، والخدمات المالية، والرعاية الصحية، أن تلبّي متطلبات صارمة في ما يتّصل بالشفافية، والإشراف البشري، وإدارة المخاطر، وحوكمة البيانات.
وفي حين أنَّ القانون لا يفرض صراحةً على مقدمي الخدمات أو الموزعين عمليات تدقيق الذكاء الاصطناعي، فإنّه ينسجم بقوة مع الممارسات المتعلّقة بالتدقيق من خلال التأكيد على مبادئ مثل العدالة، والإشراف البشري، والدقّة، والشفافيّة. إلى ذلك، تشير أحكام مثل المادة 9 (إدارة المخاطر) والمادة 11 (الوثائق الفنية) ضمناً إلى احتياجات إجرائية وتشغيلية يمكن تلبيتها من خلال ممارسات التدقيق المنظّمة5.
ثالثاً – مثال الحداثة للجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة في اليونان
قد يُطلَب من الأجهزة التدقيق في استخدام القطاع العام لنظم الذكاء الاصطناعي، لاسيّما في مجالات مثل صنع القرار المؤتمت أو تخصيص الموارد بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ولكن يتعيّن عليها أيضاً أن تضمن احترام استخدامها للتحليلات القائمة على الذكاء الاصطناعي قوانين حماية البيانات، والعدالة الإجرائية، ومبدأ قابلية التفسير. ويساهم ديوان المحاسبة اليوناني في التطرق إلى وجهين لعملة واحدة. ووفقاً للدستور اليوناني، فإنَّ الديوان (Elegktiko Synedrio) هو المحكمة المالية العليا للجمهورية اليونانية، ويعمل كجهاز أعلى للرقابة المالية والمحاسبة تابع للدولة يدقّق في استخدام الأموال العامة.
في الوقت الراهن، يدخل الديوان عصراً جديداً من التحول الرقمي من خلال تنفيذ نظام المعلومات المتكامل، وهو مبادرة إصلاحية رائدة تموّلها آلية التعافي والقدرة على التكيّف للاتحاد الأوروبي. ويجري تصميم المشروع لتحديث الوظائف التشغيلية والقضائية للديوان عبر دمج أحدث التقنيات الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي في سير عمله اليومي.
ويقدّم النظام الجديد وظائف مثل رقمنة المحفوظات القضائية الواسعة النطاق، والمعالجة المؤتمتة للوثائق، وتطوير ملفات القضايا الإلكترونية لتركيز جميع العناصر الإجرائية في بيئة رقمية واحدة. ومن الأهمية بمكان أن يشتمل النظام على مكوّنات قائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل إخفاء الهوية المؤتمت للقرارات، وتصنيف القضايا حسب الموضوعات، واقتراح السوابق القضائية والتشريعات ذات الصلة في الوقت الحقيقي لدعم القضاة الذين يتولّون الفصل في القضايا. ولا تهدف هذه السمات إلى التعجيل بعمليات الفصل في القضايا والحد من تراكمها فحسب، بل أيضاً إلى تعزيز جودة النتائج القضائية واتّساقها ومساءلتها. والغرض من هذه الأدوات هو مساعدة السلطة التقديرية القضائية، وليس استبدالها، وتالياً الحفاظ على استقلالية الفصل القضائي ونزاهته.
بالإضافة إلى ذلك، ستكون هذه المعلومات قابلة للتشغيل المتبادل مع غيرها من منصات الإدارة العامة والقضائية، الأمر الذي من شأنه أن يقلّل إلى حد كبير من التكرار الإجرائي وأن يمكّن من تبنّي نهج أكثر تبسيطاً ومستنداً إلى البيانات في التعامل مع العدالة. وستعمل البوابة الرقمية الجديدة للديوان، والتي سيتم إطلاقها رسمياً في 16 سبتمبر/أيلول 2025، على تحسين إمكان الوصول وتوفير الخدمات المباشرة للمواطنين، مما يعكس تحولاً أوسع نطاقاً نحو الشفافيّة المؤسسية والمشاركة المدنية.
في هذا السياق، يعمل التطور الرقمي الذي طرأ على ديوان المحاسبة اليوناني على تعزيز أداء اختصاصاته، في المجال القضائي ومجال التدقيق على السواء. ويسهّل دمج النظم الذكية الإشراف الفعّال وفي الوقت المناسب، مع ضمان التوافق مع مبادئ الشرعية والتناسب واحترام الحقوق الأساسية. وهو يشكّل خطوة حاسمة نحو نظام عدالة أكثر حداثة وكفاءة وخضوعاً للمساءلة.
وأخيراً – نظراً إلى تركيز قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي على الحقوق الأساسية، والشفافيّة، والإشراف البشري – وخصوصاً في نظم الذكاء الاصطناعي العالية المخاطر – قد يكون من المعقول أن نتوقّع من ديوان المحاسبة المخوّل بسلطات قضائية أن يمارس اختصاصه لمراجعة أعمال الإسناد التي تنطوي على نظم الذكاء الاصطناعي. وفي مثل هذه الحالات، يحقُّ للديوان تقييم ما إذا كان نشر نظام الذكاء الاصطناعي يحترم معايير حقوق الإنسان المعمول بها، بما في ذلك الضمانات ضد التمييز، والحق في الإجراءات القانونية الواجبة، ومبادئ حماية البيانات. ويتماشى هذا الإشراف مع الهدف الأوسع لقانون الذكاء الاصطناعي لضمان عمل تقنيات الذكاء الاصطناعي وفقاً لإطار الحقوق الأساسية للاتحاد، وتالياً تعزيز شرعية صنع القرار العام التلقائي ومساءلته. وفي حالة ديوان المحاسبة، تتراوح المسؤولية من الحد الأدنى إلى الصفر لأنّه يعمل كمحكمة مالية عليا تتمتّع بجميع الصلاحيات اللازمة من الحياد والاستقلالية، ويعمل مع قضاة مخوّلين بضمان الاطّلاع اللازم على السلامة القانونية المطلوبة. ويحصّن نظامه الأساسي الجديد (القانون رقم 4820/2021) والتدقيق الدستوري ديوان المحاسبة اليوناني ويخوّله التعامل بفعالية مع هذه التهديدات.
وبالانتقال الآن إلى التدقيق في نظم الذكاء الاصطناعي التي تستخدمها الجهات الخاضعة للتدقيق، يعكف ديوان المحاسبة اليوناني حالياً على مراجعة النظام الوطني للإعلان عن الأصول – وهو نظام يتطلّب من مئات الآلاف من أصحاب المناصب الكشف عن الدخل والممتلكات والالتزامات في كل عام. وجرى أخيراً تنقيح نظام إقرارات الذمّة المالية، بما في ذلك منصّة حديثة رقمية بالكامل لحفظ الملفات باتت تعمل بكامل طاقتها حديثاً. وهذا النظام مصمّم لاستخلاص المعلومات من قواعد بيانات الضرائب وسجلات الأراضي والمصارف، مع إنشاء أساس تقني لتحليل المعاملات. وأجرى ديوان المحاسبة اليوناني تدقيقاً في أداء هذا النظام الذي تعتبره منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أداةً رئيسية لمكافحة الفساد في القطاع العام. ومن المقرر نشر النتائج قريباً خلال هذه السنة، أي في عام 2025.
رابعاً – الخلاصة
تتمتّع العديد من الولايات القضائية بسلطة الرقابة الرقمية – الفوترة الإلكترونية، والإعلانات الإلكترونية – ولكنّها لا تزال تعتمد على أخذ العينات التي تتطلّب عمالة كثيفة لاختبار النزاهة وإنفاذ المساءلة. وتعمل تحليلات المعاملات المستمرة على سدّ هذه الفجوة. ومن شأن مكتبة مشتركة لنماذج التحذير المفتوحة المصدر – الكشف عن تضارب المصالح، وتحديد التواطؤ في المشتريات، وتتبّع مسار ضريبة القيمة المضافة – أن تسمح للأجهزة الرقابية المقيّدة الموارد بتخطّي سنوات من التجارب. ولا تحلّ تحليلات المعاملات محل الشكوك المهنية أو الاطّلاع القضائي، بل تعمل على تضخيم الشكوك. ومن خلال تحويل سيل من العادم الرقمي إلى إشارات تحذيرية جديرة بالثقة، في إمكان الأجهزة الانتقال من تحديد المخاطر يدوياً إلى الوصاية اليقظة.
والدرس هنا شامل: تأمين السلطات القانونية، وفتح تدفقات البيانات، ومزج حرفة التدقيق مع علم البيانات، والتكرار السريع تحت حراسة أخلاقية قوية وتبادل، أو حتى تجميع أفضل الممارسات وخبرات تكنولوجيا المعلومات. وتتلخّص المكافأة هنا في تسجيل ارتفاع في معدلات الردع والكشف – قبل الانتهاء من تقارير التدقيق بفترة طويلة. ويبدأ أي جهاز أعلى للرقابة المالية والتدقيق يفكّر في هذا المسار بترقية التفويض وحمايته لضمان الإجراءات القانونية الواجبة.
الحواشي
- مبادرة الإنتوساي للتنمية (2023). فهم استخدام الذكاء الاصطناعي في تدقيق القطاع العام. ↩︎
- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. (2024). الحكم باستخدام الذكاء الاصطناعي: هل الحكومات جاهزة؟ أوراق عمل الذكاء الاصطناعي لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية رقم 20. https://doi.org/10.1787/26324bc2-en ↩︎
- Papapanagiotou, A., & Zachou, C. (2024, October). AI and machine learning in public sector auditing: Perspectives from the Hellenic Court of Audit – A jurisdictional SAI. ASOSAI Journal. ↩︎
- جهاز البحوث البرلماني الأوروبي. (2021). قانون الذكاء الاصطناعي: النهج القائم على المخاطر والإطار التنظيمي ↩︎
- جهاز البحوث البرلماني الأوروبي. (2021). قانون الذكاء الاصطناعي: التقويم الأولي لتقييم تأثير المفوضية ↩︎